كتاب القدس

كن كاتبا

ابدأ الان بكتابة المحتوى على منصة كتاب القدس

مِفتاح الكهرباء (قصة قصيرة)

مِفتاح الكهرباء (قصة قصيرة)

عبثا حاولتُ الاسترسال في قراءة الرواية الذي بيدي مستلقيا على مقعدي العالي في الشرفة المطلة على البحر من الطابق الحادي عشر. صياح زوجتي بين الفينة والأخرى يقطع استرسالي تطالبني بإصلاح زر موتور المياه الخاص بحوض المطبخ:

-       مش هتصلح الزر دا بقى؟ أنا تعبت.

فرددتُ ببرود للمرة العاشرة:

-       استخدمي زر الحمام.

فازداد صياحها:

-       يعني أقعد رايحة جاية من المطبخ للحمام عشان أغسل المواعين عشان خمستاشر جنيه؟

خمسة عشر جنيها هي ثمن الزر الجديد بعد أن كان ثمنه لا يتعدي الأربعة جنيهات. حاولتُ إلقاء المسؤولية عليها فقلت وأنا أحاول مداراة بُهتاني:

-       قلت لك ميت مرة بالراحة على الزر واضغطيه في المكان الصحيح, الضغط في منتصف الزر يتلفه.

ردت بلا مبالاة

-       هو قديم ونوع رديء.

ثم اقتربت مني شبة متوسلة:

-       طيب ما تركب الزر الغير مستعمل الموجود في ركن المطبخ.

فرفعت بصري إليها مستغربا أن تخرج هذه الفكرة الرشيدة من عقلها اليابس وقلت:

-       والله برافو عليك, طيب ما أنت بتفكري أهه.

فنظرتْ إليَّ باستهجان وكأنها تقول لي: "مش أنت لوحدك اللي بتفكر".

فقمت على الفور ووضعت في طريقي إلى لوحة كهرباء الشقة العمومية, الروايةَ على المنضدة مفتوحةً على الصفحة التي توقفت عندها وقمت بفصل التيار الكهربائي. ثم نزعت الزر القديم ذي النصف عمر, ولاحظت كم هو صَدِءٌ ثقيل الحركة مغطىً بالشحوم, فنظفته قدر الإمكان. وخلال ربع ساعة كنت قد انتهت من عملي وعدت إلى روايتي وكأنني قد فتحت عكا فرحا لتوفير ثمن زر جديد. وغرقتُ في أحداث الرواية ما بين قراءةٍ وتأمل بِساط البحر الأزرق الممتد أمام ناظريَّ مد البصر.

ولم تمض نصف ساعة حتى سمعتها تصيح من جديد أن الزر قد تلف مجددا. فصببتُ عليها جام غضبي متهما إياها بالشؤم وأنها ما أن تضع يدها في شيء حتى يعطب. فلم ترد إلا دموعُها وقالت منكسرة:

-       إنزل هات فول وطعمية للغداء. أنا مش هأعرف أطبخ وأنظف المطبخ بالطريقة دي. وورايا غسيل كمان.

ثم تركتني أنظر إلى البحر كالأبله ودخلتْ حجرتها.

 

هذه الشقة التي اشتريتها منذ أكثر من عشر سنوات كاملة التشطيب, قد استخدم مالكها في تشطيبها أردأ الخامات من دهانات إلى سيراميك الأرضيات إلى أعمال الكهرباء؛ كل شيء كان من الدرجة الثالثة حتى لا تكلفه كثيرا, فيحقق من بيعها أقصى ربح ممكن. وكنت أعلم ذلك.

 

قمت مرة أخرى وفصلت التيار العمومي برفق, إذ لاحظت منذ زمن أن المفتاح العمومي لا يقطع الدائرة الكهربية إلا بوضع شيء أسفله, فأسندته بقطعة صغيرة من الخشب.

وقمت بفك زر موتور المطبخ للمرة الثانية وفحصته فتبين لي ألّا مناص من شراء زر جديد. وبالمرة أجدد زر الموتور الذي في الحمام حتى أريح بالي.

دخلت على زوجتي قائلا لها:

-       أنا نازل أشتري أزرار جديدة للمطبخ والحمام. بس قومي اعملي حاجة لحد ما آجي واستخدمي مؤقتا زر الحمام.

فقامت متثاقلة ونظرة المنتصر في عينيها.

وذهبتُ لإعادة التيار فعاندني المفتاح العمومي هذه المرة ورفض رفضا باتا أن يوصل التيار. وكلما رفعته سارع بالارتداد هابطا محدثا صوتا حادا كأنه يصفعني بل خيل إليَّ أن المفتاح في ارتداده السريع يبصق عليَّ.

وأحسست بالسخونة تسري في صدري لتزايد النقود التي يتحتم عليَّ إنفاقها على إصلاح العيب كلِّه.

ما أن أنجح في توفير مبلغٍ حتى تدهمني مشكلةٌ تذهب بما وفرتُ وأكثر منه!

فككت المفتاح العمومي غير عابئ بإخبار زوجتي أن الكهرباء مقطوعة الآن. وتركتها تحاول عبثا في زر الموتور بالحمام. كنت حانقا عليها وأعتبرها السبب في كل هذا.

صاحت زوجتي من الحمام:

-       الكهرباء انقطعت.

فلم أَرُدّ. وكنت أبحث عن تشعيره سلك نحاسي لوضعه مؤقتا مكان المفتاح ليعمل عمل المنصهر الكهربائي, ولكني لم أجد سوى فردة سلك سمك ملليمتر. فقمت بتوصيلها بين طرفي المفتاح؛ أعلم أن التشعيرة يجب أن تكون رفيعة جدا حتى تنصهر حال الخطر, ولكني أقدمت على ذلك ممنيا نفسي أنها  فقط ساعة زمن ولن يحدث فيها شيء.

وبمجرد أن سرى التيار في عروق الشقة وأحستْ به زوجتي, قامت على فورها بتشغيل الفرن الميكرووريف, وعملت غسالة الملابس من تلقاء نفسها بمجرد إحساسها بالتيار الكهربائي وكأنها تتعاطف مع زوجتي ولا تريدها أن تتكبد عناء تشغيلها.

ودخلت غرفتي لاستبدال ثيابي وأنا أتسخّط لكل ما حدث. ولم أكن قد أكملت استبدال ملابسي حتى سمعتها تصيح مجددا:

-       الحقني تعال بسرعة, دخان مِن هنا.

فخرجت إليها باللباس الداخلي أصيح:

-       مِن هنا فين؟

فأشارت لي حيث مجمع كهرباء المطبخ, فرأيت خيطا سميكا من الدخان الأسود يتسرب منه كأنه يوشك أن يتحول إلى عفريت مصباح علاء الدين. وقبل أن أصل إلى التشعيرة التي وضعتها لأزيلها, كانت الكهرباء قد غادرت الشقة كلها كما تغادر الروح جسم الإنسان. فتوقف كل ما يعمل بالكهرباء عن العمل. فهمست لنفسي:

-       هو يوم باين من أوله!

وهمست هي رافعةً كتفيها غير عابئة:

-       وأنا مالي.

ثم تركتْني قبل أن أنفجر فيها:

-       أنا بقي لي هنا شهرين لوحدي. كل شيء كان ماشي تمام وما فيش حاجة واحدة اتعطلت أو باظت. ولية إيدها شؤم, ما فيش مصيبة بتحصل إلا ولك فيها يد.

ولم تنبس هي ببنت شفة.

فزدتُ من غلظة ألفاظي وقلت:

-       مشكلة زي دي هتكلفني آلافات. في زوجة تكون وش السعد والرزق وزوجة وش خراب وفَلَس.

ولمحتُ باب الغرفة التي دخلتها يُغلق وكأنه أَغلق من تلقاء نفسه.

وظللت أبرطم:

-       حتى الراجل اللي باشتري من عنده قافل بقى له فترة... يمكن شهر.

كنت أشتري لوازم الكهرباء من ذلك الرجل صاحب المحل الصغير أمام الفرن الآلي. وسبب ذلك أنه البائع الوحيد في المنطقة الذي يتحلى ببال طويل مع الزبون. فكنت أسأله في الكهرباء والرجل يجيبني على الرحب والسعة. وكان سعيدا بنقل خبرته للآخرين, ينصحني بشراء الأصناف الجيدة وترك الرديئة لأنها سريعة التلف. وفوق ذلك كانت أسعاره معقوله بل ربما كانت أحيانا أرخص من الآخرين. أما سائر البائعين فكانوا قليلي الصبر لا يحترمون المشتري لاسيما إن كان غريبا ويشتري شيئا بسيطا بنقود قليلة.

أكملت ارتداء ملابسي وهممتُ بالخروج غاضبا فما هالني إلا رؤية بقع الدخان ترسم سحبا سوداء صغيرة حول معظم مجمعات الكهرباء في الشقة.

وذهبت بعد أن صفقت الباب خلفي بعنف.

قررت الذهاب إلى محلي المفضل رغم أنه الأبعد نسبيا, علَّ وعسى يكون عم عبد الحميد قد فتح محله اليوم. وفي الطريق مررت بمحلات كهرباء أخرى أنظر أيُّها قد فتح أبوابه تحسبا لاستمرار عم عبد الحميد في غلق محله.

وشردت قليلا فتذكرتُ عم عبد الحميد, كان بعد أن استراح لي, يحكي عن متاعب ابنته في كلية العلوم؛ فهو لا يستطيع أن يعطيها أكثر من ثلاثين جنيها مصروفا ليومها, تشمل المواصلات والطعام حتى تعود مع المغرب. ولكي يكفي البنتَ هذا المصروفُ فهي تأخذ معها من المنزل سندوتشات لغدائها. وأخبرني عم عبد الحميد كيف أن ابنته تعود مع المغرب ولمّا تدخل لقمةٌ معدتها لأنها تستحي من إخراج السندوتشات المنزلية أمام زميلاتها اللاتي يشترين الوجبات الجاهزة والعصائر من كافيتريا الكلية. فتتعلل البنت بأنها ستبسقهن في الطريق إلى المحاضرة لكي تتمكن من تناول ساندونش بعيدا عنهن, ولكن سرعان ما يُدْرِكْنَها فتدُسُّ الساندوتش وتتحمل الجوع.

أخبرتُه يوما أنني من أسوان وأنني حديث الإقامة في الإسكندرية وكنتُ قد مَدَحْتُ فيه حسن لقائه وبشاشته ولطفه مع الزبائن. فحدثني كيف تبدَّل حالُ الناس إلى الأسوأ. وأخبرني كيف كان الناسُ قديما طيبين يحبون بعضهم البعض ويتهادون ويتزاورون وقال لي فيما قال:

-        ... مثلا أنت من أسوان بتجيب لي شوية كركديه وانت جاي هدية...أنت تهاديني وأنا أهاديك.....

يومها عرفت أن الرجل يطمع في بعض كركديه أسوان ذائع الصيت لجودته, ولكني تجاهلتُ الأمرَ رغم وجود الكثير منه عندي في المنزل.

ومن على بعد رأيت محل عم عبد الحميد مفتوحا. وهو يجلس كعادته على كرسيه أمام باب المحل. ولما دنوت قليلا أمعنت النظر وتسائلت: هل هذا عم عبد الحميد أم أحد أقربائه؟

كان الرجل جِلدا على عظم وقد برزت عظام جمجمته فبدت كجمجمة الميت. فألقيت عليه السلام بلهجة شفيقة فرد التحية ثم سألته متجاهلا حالته الصحية المتدهورة:

-       أزايك يا عم عبد الحميد؟ أنا جيت لك أكثر من مرة لكن دايما قافل!

فقال بصوت كليل من داخل قميص صار فضفاضا على جسده الذي كان نحيلا وازداد نحالة:

-       الحمد لله. أنا تعبان من أول رمضان, يادوب صُمتُ أول يوم وتعبت في اليوم التاني, سرطان في المعدة.

وكان رمضان قد انتهي من قرابة الشهرين.

عادة ما كنت أقول إذا ذُكِرَ هذا المرض القاتل أمامي:  "سلامٌ قول من ربٍ رحيم". ولكني منعت نفسي قسرا من التفوه بذلك حتى لا أزيد في هموم الرجل. وسألته عمّا إذا كان يعالج بالكيماوي, فقال:

-       آخذ كيماوي مرتين في الأسبوع. عندي كيماوي بعد بُكرة. وآخذ حقنة كل أسبوع الواحدة بخمسمائة جنيه.

ثم قَبَّلَ أصابع يده اليمني وجها وظهرا شكرا لله.

ولم أجد غير الدعاء له فأعاد تقبيل يده شكرا لله. ثم أحببت أن أغير الموضوع ففتحت موضوع المشتريات التي أريدها منه.

وكان لعم عبد الحميد ولدٌ يعمل كهربائيا قد علّمه أصول صنعة الكهرباء فصار بارعا فيها. اتصل عم عبد الحميد بابنه الذي صحبني إلى الشقة وقام بمعاينة الأضرار والتلفيات. تبين أن الشقة بحاجة إلى تغيير السلوك الكهربية المارة داخل الحوائط والتي تلتقي في المجمعات الكهربية المحترقة, بالإضافة إلى المفتاح العمومي وزريّ موتور المياه بالمطبخ والحمام, وطلبت منه بالمرة تغيير جميع أزرار الكهرباء بالشقة وكان أغلبها به خلل.

قام ابن العم عبد الحميد ببعض القياسات لمعرفة أطوال أسلاك الكهرباء المطلوبة.

 لا أطيل عليكم... فبالنهاية اشتريت أدوات ومفاتيح وأسلاك بألفي جنيه وأخذ الكهربائي ألفا أخرى أجرا له, فكان إجمالي ما تكبدتُ ذلك اليوم ثلاثة آلاف جنيه, أي ما يكفي لحُقَنِ عم عبد الحميد ستة أسابيع فقط.

ورأتني زوجتي وأنا أَنْقُدُ الشابَ المبلغ. فما أنْ انصرف مع دخول المغربية حتى لاذت بغرفتها خوفا من رد فعلي.

ولكني ألتقطتُ روايتي من فوق المنضدة في هدوء ودخلت إلى الشرفة في سكينة وجلست على مقعدي المرتفع وتأملت بساط البحر الأزرق الممتد حد البصر, وأستانفت القراءة.

كانت عيناي تمران فوق السطور والذهن شارد لا يعي ما يقرأ.

ولاحت مني نظرة إلى الشقة وقد تلألأت بالأنوار وتساءلت: تُرى أمقابلُ كل شيء يتلألأ شيءٌ آخر يخبو؟

 

وبعد ثلاثة أيام كان هناك تُكْتُك يجوب الحي ناعيا: إنا لله وإنا إليه راجعون, توفي إلى رحمة الحاج عبد الحميد المصري, صلاة الجنازة عقب صلاة العصر بمسجد التقوى والعزاء على المقابر.

 

ولم أندم على شيء ساعتها ندمي على عدم إهدائه بعض الكركديه الذي كان يشتهيه.

***

70
او قم بنسخ الرابط وانشرة اينما كان
كتاب القدس

هذا المحتوى ملك للمسؤول
alqudsbook.com موقع

© alqudsbook.com. كل الحقوق تعود الى كتاب القدس. صمم ل كتاب القدس