تلبية الاحتياجات النفسية ضرورة ملحة وليست رفاهية، هي حجر الأساس لتكوين إنسان سوي نفسيًا قادر على الدخول في معترك الحياة باتزان يسمح له بالنمو على الصعيدين العاطفي والعملي، وإقامة علاقات متوازنة مع الآخرين، تمكنه من زرع البذرة الأولى لتأسيس حياة مستقرة و أسرة متفهمة داعمة لأفرادها، وسط بيئة صحية حاضنة لأبنائها منذ النشأة الأولى، تنمي لديهم انتماء الحب للعائلة والأصدقاء لا التعلق و الشح النفسي وفقدان الثقة وغياب الأمان.
ما هو التعلق ومن هو المتعلق
يقصد بالتعلق أن يرهن المرء حياته لقاء وجود الآخرين فيها، أو مقابل ما يمنحونه من احتياجات نفسية، بطريقة تجعل حياته شبه مستحيلة إن توقفوا عن تقديم الإمدادات من حب واهتمام واحتواء.
إذ من الممكن أن يلوم الطرف الثاني وينتقل الأمر إلى نقد حاد، واتهامه بالتقصير وربما التجاوز عليه لفظًا، وبأنه لا يقدر تضحياته من تفريغ حياته بالكامل من أجله، حيث يسعى الشخص المتعلق بتحفيز الآخر لأن يرهن حياته أيضًا من أجل إعطاء هذه الاحتياجات النفسية التي في الغالب لم تمنح له منذ الطفولة.
أما الشخص المتعلق فهو الشخص الذي لا يشعر بالارتياح ولا بالسعادة أو باكتماله إلا بوجود طرف ثاني في حياته، بشكل يبدو مزعجًا للطرف المتعلق به.
كيف تشكل التعلق
التعلق بجميع أشكاله نشأ منذ الطفولة، و رغم كل الحب الذي يحمله الأب والأم تجاه أبنائهم من المحتمل أن يكونوا تسببوا في حدوث مشاكل نفسية لدى أطفالهم دون قصد، فهم يؤدون رسالتهم طبقًا لوعيهم النفسي وفهمهم للحياة، و لُوحِظ من خلال تحليل و دراسة الحالة النفسية للأفراد الذين عانوا من التعلق أن أغلبهم تعرضوا لحرمان عاطفي في الصغر أو انعدام للأمان والاهتمام، وتم تهميش ضرورة شعورهم بوجودهم وبأن لهم رأي وقيمة، والصورة التي يُنظر له من قبل الحاضنة الاجتماعية الأولى لنموه النفسي.
ماهي أنماط التعلق
النمط الأول التعلق الحذر:
التعلق القلق حيث تجد الشخص يعيش في حالة من الترقب، و شعور دائم بالخوف، هذا الفرد نشأ في مرحلة الطفولة في بيئة مفتقدة للأمان تحت رعاية أب متسلط وأم عصبية في بيت يملؤه الصراخ.
وعليه فإن الشخص الذي يعاني من التعلق الحذر تربى بين أبوين غير داعمين، وتعرض للنقد واللوم والمقارنة مع أطفال آخرين، حياته مفتقدة للاستقرار، عاش تجربة صعبة جدًا غالبًا من عدم تواجد الأبوين عاطفيًا أو في حالات الانفصال، عند إشراك الطفل في النزاع.
المتعلق كان طفلًا محرومًا من الرعاية والتقدير بالقدر الذي يساعده في نموه النفسي، نشأ في جو مشحون بالقلق، لذلك يصبح مستقبلًا شخص يعاني من ارتياب عاطفي، يظن بأن شريك الحياة قد يتركه بأي وقت نجده يعاني من عقدة الهجر والفقد، حتى على مستوى الصداقات فإن هذا الشخص يصاب بالذعر في حال تغيب من يرتبط بهم عاطفيًا.
و يصعب عليه تقبل انشغال الطرف الآخر دون أن يشعر بتوجس داخلي من إمكانية التخلي عنه فيتوهم بأن شريكه لم يعد يحبه كما في السابق، أو أن في حياته شخص آخر، مما يؤدي إلى الدخول في حالة من الصدام المهول والغير مبرر نتيجة هذا الألم الداخلي، مما يدفعه نحو سلوك استباقي من المبادرة بإنهاء العلاقة، هم لا يتحملون ألم الترك و مقتنعين بأنه سيتم التخلي عنهم لهذا يقوموا بحماية أنفسهم من خلال الترك أولًا.
وكلما كانت نشأة الطفل بشكل غير آمن كلما زاد نمط التعلق الحذر لديه، الشعور بعدم الأمان وبأن العالم غير محتضن وغير مقدر له يجعل هذا الشخص يتألم جدًا، وفي حالة من الرغبة بالتلاصق والقرب الدائم، علاوة على أنه لا يتفهم ابتعاد الطرف الثاني وإن كانت لحاجات ملحة من مشاغل الحياة.
المشكلة الرئيسة في هذا النمط هي الصورة الذهنية الغير جيدة عن نفسه، لذلك يقدم تنازلات غير مبررة من أجل الاحتفاظ بالطرف الثاني، ومن خلال التحليل السيكلوجي أن غالبية الأشخاص الذين يعطون عطاءًا مبالغ فيه هم أشخاص أنتجوا هذه الطريقة حتى يضمنوا بقاء الشريك في العلاقة، وبالتالي فإنهم معرضين للصدمات، نتيجة عدم التكافؤ في العطاء، هم يعطون عطاءًا فائضًا في غير موضعه وينتظرون عطاءًا يوازي عطائهم وهذا لا يتحقق، إذ أن الأشخاص وإن كانوا جيدين يقدمون عطاءًا طبيعًا متوازن.
واحتمال وقوع هذا الشخص مع شخصية نرجسية قائمة على التلاعب والاستغلال كبيرة، و سيكون مدمرًا له، بسبب وجود العقدة الأزلية من خوفه من الهجر والفقد، و نعلم أن الشخصية النرجسية أبجديتها الأولى الإلقاء والتخلي والعقاب الصامت والتجاهل، تجده يذهب ويعود ثم يذهب ويعود ليحصد ذالك العطاء اللامحدود من المتعلق، ثم يلقي له ما بين الحين والآخر بفتات من الاهتمام، حتى يسنتزفه كليًا ويتركه منهارًا دون أن يرف له جفن،. لذلك يُنصح بمراجعة مستشاره النفسي من أجل فهم شخصيته وتحسين صورته الذهنية عن نفسه ويعلمه كيف يحافظ على حدوده وحدود الآخرين.
النمط الثاني هو التعلق المتجنب :
نجده شخص يتجنب الحميمية والقرب الزائد والألتزام، لديه أزمة ثقة كبيرة مع الأخرين، نشأ في رعاية أب وأم جعلوه يطور آلية دفاعية لحماية ذاته من الأخرين، لأنه وجد أن القرب الزائد من الأهل و المحيطين مصدر للألم لذلك فضل الإبتعاد.
يحتاج الشخص المتجنب للحب والاهتمام والرعاية لكنه يخاف منهم، تلك الاحتياجات النفسية مربوطة بالعقل اللاواعي بالألم، والخسارة والوجع والمشاكل لذلك فإنه عند نقطة معينة و يقصد بها الموقف الذي يتقرب به الأشخاص الذين يقدمون له الحب والاهتمام، عندها يصدر عنه رد فعل تجنبي يبعدهم عنه؛ تحسبًا لأي تهديد عاطفي، سببه التعرض في الطفولة للإهمال الشديد من الأم والأب مما جعله يعتمد على نفسه في كل شيئ واكتسب مع الوقت الاعتمادية العاطفية التي يعتبرها في بعض الأحيان تحرر عاطفي و قيمة عليا تم دفع ثمنها غالبًا، ولا يستطيع التفريط فيها حتى للمقربين.
الاستقلالية العاطفية التي طورها الشخص التجبني في مرحلة الطفولة وفقًا لأحداث قد تكون قدرية، جعلت من الصعوبة عليه أن يطلب المساعدة حتى وإن كان يتألم، لما تم تشكيله في ذهنه من قناعات عن أن القرب من الناس احتمال أن يسبب له الأذى واللوم؛ لهذا يهرب من الإلتزام مع شريك حياة أو مع صديق مقرب لما يعاني من أزمة ثقة مع الآخرين.
النمط الثالث المتعلق المشوش
شخص مشوش في بداية تنشأته أو في بداية استكشافه للحياة وجد أن الأب أو الأم أحدهما أو كلاهما قام بتصدير رسائل نفسية للطفل متناقضة عاطفيًا، و مختلطة ما بين الحنان والقسوة، و بين الاحترام وعدم التقدير، و بين الكرم والشح، بين الأهتمام الأهمال، كثيرًا ما كان يسمع جملًا من قبيل لقد تم صفعك بقوة خوفًا عليك، أو أنا أقسو عليك لأني أحب مصلحتك، أو أنا حرمتك لأني أحبك أن تصبح رجلًا… والكثير الكثير من هذا القبيل حتى فقد البوصلة الحقيقية لمعرفة ماهية الحب أو كيف يقرر منح أو منع الثقة عمن حوله لعدم تمكنه من التمييز بين من يريد له الخير من عدمه.
هذا الطفل كان حصيلة أبوين لم تتوفر لديهم القدر الكافي من المعلومة النفسية وبالتالي فإن هذا الشخص مستقبلًا سيتبع نفس السلوكيات عن قلة وعي ويبدأ بإعطاء رسائل مختلطة لشركاء الحياة والأصدقاء.
النمط الرابع هو التعلق الآمن:
حيث نشأ الطفل في جو أسري صحي على المستوى النفسي، يوفر بيئة مناسبة لنمو آمن مبنى على الثقة بالنفس والثقة بالآخرين، الأطفال الذين أخذوا قسطًا كافيًا من الأمان العاطفي من الأم والأب هم في حالة ونس مع ذواتهم، يتقبلون فكرة غياب الأم أو الأب لأنهم يدركون أنهم موجودون دائمًا في حياتهم ما داموا على قيد الحياة، مما يعني تعامل متوازن مع شركاء الحياة مستقبلًا.
حالة الآمان هذه تولد شعورًا بالتقدير الداخلي وصورة ذهنية جيدة عن أنفسهم، تجعلهم يستكشفون الحياة بمرونة نفسية معتمدين على مخزون داخلي من الاستحقاق لبناء علاقات متوازنة مع المحيط.
يمتلكون مناعة نفسية لتقبل صدمات الحياة والتعامل معها ثم تجاوزها والإستفادة من دروسها، هم منسجمون مع طبيعتهم البشرية في ضرورة تواجد الأشخاص في حياتهم، ولكن ليس بشكل مرضي يوقف الحياة ويهدم الرضى ويهدد السعادة.
يقدمون المساعدة لغيرهم ولا يجدون في أنفسهم حرج من طلب المساعدة إذا لزم الأمر، إذ أن الدعم الذي حصلوا عليه من الأب والأم في الطفولة جعلهم متوازنين يعلمون أن لهم احتياجات كما أن للآخرين احتياجات أيضًا، فلا يبالغون بطلب الإهتمام ولا يبالغون بالعطاء، يعلمون جيدًا حدودهم وحدود الآخرين.
يشعرون دائمًا بالأمان، هم في حالة دائمة من الشعور بالسكينة والهدوء والطمأنينة، يعتمدون على الله سبحانه وتعالى، ثم على قدرتهم وصورتهم الذهنية الجيدة عن أنفسهم، يجتهدون في الحياة و يسعون للنمو على صعيد العمل أو العلاقات، يسعدون بنجاح شركاء الحياة والأصدقاء كما يسعدون بنجاحهم.
هم لا يعانون في غياب الآخرين مع أنهم يحبون بإخلاص غير أنهم يمنحون الآخر الحرية والاستقلال، و تتميز علاقاتهم بالاحترام والتقدير المتبادل والحب والدعم المتبادل.
الاستقلالية المتوازنة تضفي على العلاقات حالة من اليسر والسلاسة منشأها الثقة بالنفس التي زرعها الأبوين في مرحلة الطفولة.
الفهم العميق لخلفيات بعض السلوكيات ممن حولنا يفتح أفاقَا أوسع للتفاهم، للتبرير…، وبناء جسور أكثر متانة مع من نحب
يقول الأديب مصطفى محمود
"لو دخل كل منّا قلب الآخر لأشفق عليه ولرأى عدل الموازين الباطنيّة برغم اختلال الموازين الظاهريّة ولمَا شعَر بحسد ولا بحقد ولا بزهو ولا بغرور."