كتاب القدس

كن كاتبا

ابدأ الان بكتابة المحتوى على منصة كتاب القدس

ما بلاش.. ما بلاش.. ما بلاش

ما بلاش.. ما بلاش.. ما بلاش

صاحٍ من النوم والحنين يُنشب أظافره في قلبي، سترك يا رب. أمّا "محمد حماقي" الذي دارت أغنيته في السيارة في أثناء ذهابي إلى العمل فقد أصرّ على النفخ في جمرات الذكرى المدفونة في القلب الموجوع. "ما بلاش تغيب عنّا تاني، ما بلاش" آه يا حماقي. لماذا هذا التوقيت!

 

      المطر الخفيف يتساقط على زجاج السيارة الأمامي، والبرد يغلّف أجساد المارّين بالملابس السميكة، ويغلّف القلب بحاجز شديد السُّمك مكتوب عليه "ممنوع الاقتراب". الجوّ العام مشحون بالحنين والكآبة، وفنجان القهوة الذي احتسيته قبل نزولي لم يُظهر تأثيره المعتاد، فكأنني شربت فنجانًا غير مُحَلًّى من الذكرى المُعَتَّقة.

 

      "قل لي مين يعوّضني حنانك، قل لي مين في حُزني يقول لي مالك!"

 لا أحد يا حماقي، أو بالأحرى قالها الكثير ولكن كأن القلب ينتظرها من أحد بعينه. توقفت سيارتي في الزحام غير المعتاد على الطريق. غالبا كان هناك حادث ربما من الليل بسبب زخّات المطر، وكأن هذا الصباح الغائم المُلَغّم بالكآبة ينقصه هذا الحادث.

 

        "لمّا يومها حضنتني وبعدين مشينا، ليه ما قلتش إنّ ده الحضن الأخير"

آه يا حماقي، لقد غابت حتى دون أن تحضنني الحضن الأخير. ولم تحضنني أيضا الحضن الأول، ولم تمسّ يدها يدي من الأساس. ربما لو كانت تعلم أنه الوداع كانت حضنتني، أمّا أنا فلو كنت أعرف أن آخر عهدكم يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل، ولو كنت عارف إن دي المرّة الأخيرة، ميّة ميّة كات هتفرق في الوداع".

 

"مهما طال بينّا البعاد مش هانسى حبَّك، وأشوفك يوم على خير"

. ليتني أستطيع أن أشوفك، ليتني أستطيع حتّى أن أعرف أنك بخير، ليتني أستطيع أنسى حبك، ولكن اقتلاعك من عصب القلب صعبُّ، وما كان بيني وبينك لم يكُ نقشًا على وجه ماء، ولكنه كان شيئًا كبيرا كبيرا كهذي السماء. توقفت الأغنية عن الدوران في السيارة ولكني أعرف أنّ نغمتها لن تتوقف عن الدوران في عقلي طول اليوم. ستظل" ما بلاش.. ما بلاش" تطاردني طول اليوم كما طاردني لحن مصطفى كامل "مصر.. ترارن.. مصر" لأيام.

 

    بعد انتهاء الغنوة مباشرة دارت بعدها أغنية "تعبت في بُعدي عنّك كان ناقصني حاجات كتير". بالله عليك يكفي اليوم يا حماقي، ماذا بينك وبيني يا أخي. أطفأت الأغاني وفتحت الشباك المجاور ليصفعني الهواء البارد علّي أخرج من هذه الحالة. ولكن باءت المحاولة بالفشل. توقّفت عند فرن على الطريق واشتريت "قُرَص بالسمسم" للإفطار. سألني البائع البشوش" عاوزها صابحة ولا بايتة" فقلت بامتعاض "بايتة"، فردّ قائلا " دا أنا باناغشك يا أستاذ"، ورددت بلسان الحال "سيبني في حالي يا عمّ الله لا يسيئك".

 

     بعد انصرافي شعرت أنّي قد أحرجت الرجل ووأدت ابتسامته، فأحسست بغصّة إضافيّة، منّك لله يا حماقي. فور دخولي سأطلب من صديقي" إبراهيم" أن يعدّ لي كوبا من الاسبريسّو علّه يعوّضني عن فنجان القهوة الذي "قلش" في هذا الصباح الغائم المشحون بالحنين. آخر مرّة شربت الاسبريسو من يد إبراهيم لم أنم طوال الليل، ولا أدري لِمَ أبدى السعادة والانتشاء لمّا أخبرته بذلك! 

 

     "الحقيقة إن الحياة ضحكت علينا، لا الفراق ولا اللقا كانوا بإيدينا"

، ينساب هذا الكوبليه من ذهني ويعبر الحواجز ويُصيب القلب برعشة مُفاجئة بعدما اشتريت القُرَص، وكأنه هدف مباغت أصاب مرماك بعد انتهاء المباراة فأعادها لنقطة البداية.

 

نزلت من السيارة واللحن يدور في عقلي الباطن "ما بلاش ما بلاش"، اقتربي أيتها البوابة اللعينة، اقترب يا أي صديق، بادلني صباح الخير، انتشلني من نفسي. وصلت إلى البوابة أخيرا وبصمت ودخلت إلى موقعي في الشركة، وقابلت إبراهيم فقلت له "إلحقني بواحد اسبريسو في السريع يا هيما وحياة أبوك" فتبسّم ابتسامة عريضة وهو يقول" ما بلااااااش"!

 

منّك لله يا إبراهيم، أنت وحماقي وبائع القُرَص الذي خدعني وقال إنها محشوّة بالملبن. إذن تستحق أن لا أبادلك دعابة الصباح بابتسامة أيها الوغد الغشّاش، وفي انتظار أن تمنحني الحياة فرصة للانتقام لقلبي من حماقي. أمّا إبراهيم، فأنا أعرف ما سأفعله معه.

11.8K
او قم بنسخ الرابط وانشرة اينما كان
كتاب القدس

هذا المحتوى ملك للمسؤول
alqudsbook.com موقع

© alqudsbook.com. كل الحقوق تعود الى كتاب القدس. صمم ل كتاب القدس